الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) السَّبْعِ (وَمَا فِي الْأَرْضِ) مِنَ الْخَلْقِ، مُذْعِنِينَ لَهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فِي نِقْمَتِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ مِنْهُمْ، فَكَفَرَ بِهِ، وَخَالَفَ أَمْرَهُ (الْحَكِيمُ) فِي تَدْبِيرِهِ إِيَّاهُمْ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَدِّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، لِمَ تَقُولُونَ الْقَوْلَ الَّذِي لَا تُصَدِّقُونَهُ بِالْعَمَلِ، فَأَعْمَالُكُمْ مُخَالَفَةٌ أَقْوَالَكُمْ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} يَقُولُ: عَظُمَ مَقْتًا عِنْدَ رَبِّكُمْ قَوْلُكُمْ مَا لَا تَفْعَلُونَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي السَّبَبِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُنْزِلَتْ تَوْبِيخًا مِنَ اللَّهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، تَمَنَّوْا مَعْرِفَةَ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، فَعَرَّفَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَلِمَا عَرَفُوا قَصَّرُوا، فَعُوتِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ الْجِهَادُ يَقُولُونَ: لَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ دَلَّنَا عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ، فَنَعْمَلُ بِهِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ إِيمَانٌ بِاللَّهِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَجِهَادُ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خَالَفُوا الْإِيمَانَ وَلَمْ يُقِرُّوا بِهِ؛ فَلَمَّا نَزَلَ الْجِهَادُ، كَرِهَ ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَقَّ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، فَقَالَ اللَّهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَوْ أَنَّا نَعْلَمُ مَا أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا}... إِلَى قَوْلِهِ: (بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) فَدَلَّهُمْ عَلَى أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَيْهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُحَادَةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: قَالُوا: لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ وَأَفْضَلَ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَكَرِهُوا، فَنَزَلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}... إِلَى قَوْلِهِ: (مَرْصُوصٌ) فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، قَالُوا فِي مَجْلِسٍ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لِعَمِلْنَا بِهَا حَتَّى نَمُوتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِيهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: لَا أَزَالُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أَمُوتَ، فَقُتِلَ شَهِيدًا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي تَوْبِيخِ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَحَدُهُمْ يَفْتَخِرُ بِالْفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ الَّتِي لَمْ يَفْعَلْهَا، فَيَقُولُ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَعَذَلَهُمُ اللَّهُ عَلَى افْتِخَارِهِمْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا كَذِبًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَدَ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْجِهَادِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: قَاتَلْتُ وَفَعَلْتُ، وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَشَدَّ الْمَوْعِظَةِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} يُؤْذِنُهُمْ وَيُعْلِمُهُمْ كَمَا تَسْمَعُونَ (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ) وَكَانَتْ رِجَالٌ تُخْبِرُ فِي الْقِتَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يَفْعَلُوهُ وَلَمْ يَبْلُغُوهُ، فَوَعَظَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}.. إِلَى قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي الرَّجُلِ يَقُولُ فِي الْقِتَالِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِنَ الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ وَالْقَتْلِ، قَالَ اللَّهُ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللَّهِ لِقَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا يَعِدُونَ الْمُؤْمِنِينَ النَّصْرَ وَهُمْ كَاذِبُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ: لَوْ خَرَجْتُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، وَكُنَّا فِي نَصْرِكُمْ، وَفِي، وَفِي؛ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِهَا الَّذِينَ قَالُوا: لَوْ عَرَفْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لِعَمِلْنَا بِهِ، ثُمَّ قَصَّرُوا فِي الْعَمَلِ بَعْدَ مَا عَرَفُوا. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى بِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وَلَوْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ لَمْ يُسَمَّوْا، وَلَمْ يُوصَفُوا بِالْإِيمَانِ، وَلَوْ كَانُوا وَصَفُوا أَنْفُسَهُمْ بِفِعْلِ مَا لَمْ يَكُونُوا فَعَلُوهُ، كَانُوا قَدْ تَعَمَّدُوا قِيلَ الْكَذِبِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ صِفَةَ الْقَوْمِ، وَلَكِنَّهُمْ عِنْدِي أَمَّلُوا بِقَوْلِهِمْ: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَمِلْنَاهُ أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا بِذَلِكَ عَمِلُوهُ؛ فَلَمَّا عَلِمُوا ضَعُفَتْ قُوَى قَوْمٍ مِنْهُمْ، عَنِ الْقِيَامِ بِمَا أَمَّلُوا الْقِيَامَ بِهِ قَبْلَ الْعِلْمِ، وَقَوِيَ آخَرُونَ فَقَامُوا بِهِ، وَكَانَ لَهُمُ الْفَضْلُ وَالشَّرَفُ. وَاخْتَلَفَتْ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَفِي وَجْهِ نَصْبِ قَوْلِهِ: (كَبُرَ مَقْتًا) فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: قَالَ: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ): أَيْ كَبُرَ مَقْتُكُمْ مَقْتًا، ثُمَّ قَالَ: {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} أَذَى قَوْلِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}. كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ لَأَتَيْنَاهُ، وَلَوْ ذَهَبَتْ فِيهِ أَنْفُسُنَا وَأَمْوَالُنَا؛ فَلِمَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، نَزَلُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شُجَّ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، فَقَالَ {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}، ثُمَّ قَالَ: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ) كَبُرَ ذَلِكَ مَقْتًا: أَيْ فَأَنْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، لِأَنَّ كَبُرَ كَقَوْلِهِ: بِئْسَ رَجُلًا أَخُوكَ. وَقَوْلُهُ: (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ) وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا، أُضْمِرَ فِي كَبُرَ اسْمٌ يَكُونُ مَرْفُوعًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: (مَقْتًا) مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: كَبُرَ قَوْلًا هَذَا الْقَوْلُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْقَائِلِينَ: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ لَعَمِلْنَاهُ حَتَّى نَمُوتَ: (إِنَّ اللَّهَ) أَيُّهَا الْقَوْمُ {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} كَأَنَّهُمْ، يَعْنِي فِي طَرِيقِهِ وَدِينِهِ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ (صَفًّا) يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ مُصْطَفِّينَ. وَقَوْلُهُ: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} يَقُولُ: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَفَّا مُصْطَفَّا، كَأَنَّهُمْ فِي اصْطِفَافِهِمْ هُنَالِكَ حَيطَانٌ مَبْنِيَّةٌ قَدْ رُصَّ، فَأُحْكِمَ وَأُتْقِنَ، فَلَا يُغَادِرُ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: بُنِيَ بِالرَّصَاصِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} أَلَمْ تَرَ إِلَى صَاحِبِ الْبُنْيَانِ كَيْفَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَخْتَلِفَ بُنْيَانُهُ، كَذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَخْتَلِفُ أَمْرُهُ، وَإِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قِتَالِهِمْ وَصَفِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِمَنْ أَخَذَ بِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قَالَ: وَالَّذِينَ صَدَّقُوا قَوْلَهَمْ بِأَعْمَالِهِمْ هَؤُلَاءِ؛ قَالَ: وَهَؤُلَاءِ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُمْ بِالْأَعْمَالِ لَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكَصُوا عَنْهُ وَتَخَلَّفُوا. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلُ الْعِلْمِ يَقُولُ: إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ رَاجِلًا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْقِتَالِ فَارِسًا، لِأَنَّ الْفُرْسَانَ لَا يَصْطَفُّونَ، وَإِنَّمَا تَصْطَفُّ الرِّجَّالَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو السَّكُّونِيُّ، قَالَ: ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ، عَنْ أَبِي بَحْرِيَّةَ، قَالَ: كَانُوا يَكْرَهُونَ الْقِتَالَ عَلَى الْخَيْلِ، وَيَسْتَحِبُّونَ الْقِتَالَ عَلَى الْأَرْضِ، لِقَوْلِ اللَّهِ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَحْرِيَّةَ يَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمُونِي الْتَفَتُّ فِي الصَّفِّ، فَجَئُوا فِي لَحْيِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ (إِذْ قَالَ مُوسَى) بْنُ عِمْرَانَ {لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ} حَقًا (أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ). وَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} يَقُولُ: فَلَمَّا عَدَلُوا وَجَارُوا عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ: يَقُولُ: أَمَالَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عَنْهُ. وَقَدْ حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو غَالِبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} قَالَ: هُمُ الْخَوَارِجُ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ الْقَوْمَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاذْكُرْ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى (وَمُبَشِّرًا) أُبَشِّرُكُمْ {بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيِّ، عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "«إِنِّي عِنْدَ اللَّهِ مَكْتُوبٌ لَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ، وَسَأُخْبِرُكُمْ بِأَوَّلِ ذَلِكَ: دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبِشَارَةُ عِيسَى بِي، وَالرُّؤْيَا الَّتِي رَأَتْ أُمِّي، وَكَذِلِكَ أُمَّهَاتُ النَّبِيِّينَ يَرَيْنَ، أَنَّهَا رَأَتْ حِينَ وَضَعَتْنِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَتْ مِنْهُ قُصُورُ الشَّام»" (فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) يَقُولَ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ أَحْمَدُ بِالْبَيِّنَاتِ، وَهِيَ الدَّلَالَاتُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ حُجَجًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، (قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ) يَقُولُ: مَا أَتَى بِهِ غَيْرُ أَنَّنِي سَاحِرٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَمِنْ أَشَدِّ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا مِمَّنِ اخْتَلَقَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُوَ قَوْلُ قَائِلِهِمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ سَاحِرٌ وَلِمَا جَاءَ بِهِ سِحْرٌ، فَكَذَلِكَ افْتِرَاؤُهُ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ يَقُولُ: إِذَا دُعِيَ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْبَاطِلَ (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) يَقُولُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ الْقَوْمَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِهِ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُرِيدُ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا سَاحِرٌ مُبِينٌ {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} يَقُولُ: يُرِيدُونَ لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَفْوَاهِهِمْ يَعْنِي بِقَوْلِهِمْ إِنَّهُ سَاحِرٌ، وَمَا جَاءَ بِهِ سِحْرٌ، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} يَقُولُ: اللَّهُ مُعْلِنٌ الْحَقَّ، وَمُظْهِرٌ دِينَهُ، وَنَاصِرٌ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ عَادَاهُ، فَذَلِكَ إِتْمَامُ نُورِهِ، وَعَنَى بِالنُّورِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ: عُنِيَ بِهِ الْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} قَالَ: نُورُ الْقُرْآنِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ "مُتِمٌّ نُورَهُ" بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَهُ بَعْضُ قُرَّاءِ مَكَّةَ وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ (مُتِمُّ) بِغَيْرِ تَنْوِينِ نُورِهِ خَفْضًا وَهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ مُظْهِرٌ دِينَهُ، وَنَاصِرٌ رَسُولَهُ، وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، يَعْنِي بِبَيَانِ الْحَقِّ وَدِينِ الْحَقِّ يَعْنِي: وَبِدِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَقَوْلُهُ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} يَقُولُ: لِيُظْهِرَ دِينَهُ الْحَقَّ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ سِوَاهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَحِينَ تَصِيرُ الْمِلَّةُ وَاحِدَةً، فَلَا يَكُونُ دِينٌ غَيْرَ الْإِسْلَامِ. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ ثَابِتِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) قَالَ: خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ بِعِلَلِهِ فِيمَا مَضَى، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا الْأَسْوَدُ بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، «عَنْ عَائِشَة قالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى"، فَقَالَتْ عَائِشَة: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}...الْآيَةُ، أَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ تَامًا، فَقَالَ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَيَتَوَّفَّى مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِم».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مُوجِعٍ، وَذَلِكَ عَذَابُ جَهَنَّمَ؛ ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا تِلْكَ التِّجَارَةُ الَّتِي تُنْجِينَا مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، فَقَالَ: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وَقَدْ قِيلَ لَهُمْ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بِوَصْفِهِمْ بِالْإِيمَانِ؟ فَإِنَّ الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ نَظِيرَ جَوَابِنَا فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} وَقَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتُجَاهِدُونَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَطَرِيقِهِ الَّذِي شَرَعَهُ لَكُمْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) يَقُولُ: إِيمَانُكُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَجِهَادُكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ (خَيْرٌ لَكُمْ) مِنْ تَضْيِيعِ ذَلِكَ وَالتَّفْرِيطِ (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مَضَارَّ الْأَشْيَاءِ وَمَنَافِعَهَا. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (آمِنُوا بِاللَّهِ) عَلَى وَجْهِ الْأَمْرِ، وَبُيِّنَتِ التِّجَارَةُ مِنْ قَوْلِهِ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} وَفُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) وَلَمْ يَقِلْ: أَنْ تُؤْمِنُوا، لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا فَسَّرَتِ الِاسْمَ بِفِعْلٍ تُثْبِتُ فِي تَفْسِيرِهِ أَنْ أَحْيَانًا، وَتَطْرَحُهَا أَحْيَانًا، فَتَقُولُ لِلرَّجُلِ: هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ تَقُومُ بِنَا إِلَى فُلَانٍ فَنَعُودُهُ؟ هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ أَنْ تَقُومَ إِلَى فُلَانٍ فَنَعُودَهُ؟، بِأَنْ وَبِطَرْحِهَا. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا قَوْلُهُ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا} وَإِنَّا؛ فَالْفَتْحُ فِي أَنْ لُغَةُ مَنْ أَدْخَلَ فِي يَقُومُ أَنْ مِنْ قَوْلِهِمْ: هَلْ لَكَ فِي خَيْرٍ أَنْ تَقُومَ، وَالْكَسْرُ فِيهَا لُغَةُ مَنْ يُلْقِي أَنْ مِنْ تَقُومُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} وَإِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، عَلَى مَا بَيَّنَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ}.. الْآيَةُ، فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَهَا، وَدَلَّ عَلَيْهَا الْمُؤْمِنِينَ، لَتَلَهَّفَ عَلَيْهَا رِجَالٌ أَنْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَهَا، حَتَّى يَضِنُّوا بِهَا وَقَدْ دَلَّكُمُ اللَّهُ عَلَيْهَا، وَأَعْلَمَكُمْ إِيَّاهَا فَقَالَ: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَيَّنَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَسْتُرُ عَلَيْكُمْ رَبُّكُمْ ذُنُوبَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فَيَصْفَحُ عَنْكُمْ وَيَعْفُو {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} يَقُولُ: وَيُدْخِلُكُمْ بَسَاتِينَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِ أَشْجَارِهَا الْأَنْهَارُ (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً) يَقُولُ: وَيُدْخِلُكُمْ أَيْضًا مَسَاكِنَ طَيِّبَةً (فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) يَعْنِي فِي بَسَاتِينَ إِقَامَةً، لَا ظَعْنَ عَنْهَا. وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يَقُولُ: ذَلِكَ النَّجَاءُ الْعَظِيمُ مِنْ نَكَالِ الْآخِرَةِ وَأَهْوَالِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَا نُعِتَتْ بِهِ قَوْلُهُ: (وَأُخْرَى) فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَتِجَارَةٌ أُخْرَى، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أُخْرَى فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: هِيَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. أَيْ وَلَكُمْ أُخْرَى فِي الْعَاجِلِ مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ) مُفَسِّرًا لِلْأُخْرَى. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي الْقَوْلُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ: وَلَكُمْ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} مُبِينٌ عَنْ أَنَّ قَوْلَهُ: (وَأُخْرَى) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَلَوْ كَانَ جَاءَ ذَلِكَ خَفْضًا حَسُنَ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ: (وَأُخْرَى) عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (تِجَارَةً)، فَيَكُونُ تَأْوِيلُ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ لَوْ قُرِئَ ذَلِكَ خَفْضًا، وَعَلَى خُلَّةٍ أُخْرَى تُحِبُّونَهَا، فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفْتُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَيُدْخِلُكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَلَكُمْ خُلَّةٌ أُخْرَى سِوَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تُحِبُّونَهَا: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، وَفَتْحٌ قَرِيبٌ يُعَجِّلُهُ لَكُمْ. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَبَشِّرْ يَا مُحَمَّدُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَفَتْحٍ عَاجِلٍ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (كُونُوا أَنْصَارًا لِلَّهِ) بِتَنْوِينِ الْأَنْصَارِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ بِإِضَافَةِ الْأَنْصَارِ إِلَى اللَّهِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ، وَمَعْنَى الْكَلَامِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يَعْنِي مِنْ أَنْصَارِي مِنْكُمْ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ لِي. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} قَالَ: " قَدْ كَانَتْ لِلَّهِ أَنْصَارٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ تُجَاهِدُ عَلَى كِتَابِهِ وَحَقِّهِ ". وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ بَايَعَهُ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، ذُكِرَ لَنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرَّجُلَ؟ إِنَّكُمْ تُبَايِعُونَ عَلَى مُحَارَبَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا أَوْ يُسْلِمُوا. ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، قَالَ: أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا مَنَعْتُمْ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ" قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَكُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ"، فَفَعَلُوا، فَفَعَلَ اللَّه». حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} قَالَ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، جَاءَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا فَبَايَعُوهُ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، فَنَصَرُوهُ وَآوَوْهُ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ؛ قَالُوا: وَلَمْ يُسَمَّ حَيٌّ مِنَ السَّمَاءِ اسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ غَيْرَهُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ الْحَوَارِيِّينَ كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمْرُ، وَعَلِيٌّ، وَحَمْزَةُ، وَجَعْفَرٌ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ) قَالَ: مَنْ يَتْبَعُنِي إِلَى اللَّهِ؟. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَيْسَرَةَ، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبيْرٍ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ، قَالَ: سُمُّوا لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ كَانُوا صَيَّادِي السَّمَكِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ، الْحَوَارِيُّونَ: هُمُ الْغَسَّالُونَ بِالنَّبَطِيَّةِ؛ يُقَالُ لِلْغَسَّالِ: حَوَارِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُنَا فِي مَعْنَى الْحِوَارِيِّ بِشَوَاهِدِهِ وَاخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِيهِ قَبْلُ فِيمَا مَضَى، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} يَقُولُ: قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ عَلَى مَا بَعَثَ بِهِ أَنْبِيَاءَهُ مِنَ الْحَقِّ. وَقَوْلُهُ: {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعِيسَى، وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ فِي بَيْتٍ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً؛ قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ سَيَكْفُرُ بِيَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي؛ قَالَ: ثُمَّ قَالَ: أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي، وَيَكُونُ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سَنًا، قَالَ: فَقَالَ أَنَا، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ؛ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ الشَّابُّ، فَقَالَ أَنَا؛ قَالَ: نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ؛ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى، وَرُفِعَ عِيسَى مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ؛ قَالَ: وَجَاءَ الطَّلَبُ مِنَ الْيَهُودِ، وَأَخَذُوا شَبَهَهُ. فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ، وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِهِ، فَتَفَرَّقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا ابْنُ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ النَّسْطُورِيَّةُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الطَّائِفَتَانِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ، فَقَتَلُوهَا، فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ، يَعْنِي الطَّائِفَةَ الَّتِي كَفَرَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ عِيسَى، وَالطَّائِفَةَ الَّتِي آمَنَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ فِي إِظْهَارِ مُحَمَّدٍ عَلَى دِينِهِمْ دِينِ الْكُفَّارِ، فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، وَقَوْلُهُ: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} يَقُولُ: فَقَوَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى عَدُوِّهِمُ، الَّذِي كَفَرُوا مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَصْدِيقِهِ إِيَّاهُمْ، أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَتَكْذِيبِهِ مَنْ قَالَ هُوَ إِلَهٌ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ، فَأَصْبَحَتِ الطَّائِفَةُ الْمُؤْمِنُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى عَدُوِّهِمُ الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهِلَالِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} قَالَ: قَوَّيْنَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ {فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، وَنَزَلَ تَصْدِيقُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى، أَصْبَحَتْ حُجَّةُ مَنْ آمَنَ بِهِ ظَاهِرَةً. قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} قَالَ: أُيِّدُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَدَّقَهُمْ، وَأَخْبَرَ بِحُجَّتِهِمْ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، فِي قَوْلِهِ: (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) قَالَ: أَصْبَحَتْ حُجَّةُ مَنْ آمَنَ بِعِيسَى ظَاهِرَةً بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةَ اللَّهِ وَرُوحَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: (فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) مَنْ آمَنَ مَعَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الصَّفِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَكُلُّ مَا فِي الْأَرَضِينَ مِنْ خَلْقِهِ، وَيُعَظِّمُهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) الَّذِي لَهُ مُلْكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَسُلْطَانُهُمَا، النَّافِذُ أَمْرَهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِمَا، الْقُدُّوسُ: وَهُوَ الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ مَا يُضِيفُ إِلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ بِهِ، وَيَصِفُونَهُ بِهِ مِمَّا لَيْسَ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُبَارَكُ (الْعَزِيزِ) يَعْنِي الشَّدِيدَ فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ (الْحَكِيمِ) فِي تَدْبِيرِهِ خَلْقَهُ، وَتَصْرِيفِهِ إِيَّاهُمْ فِيمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْ مَصَالِحِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اللَّهُ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، فَقَوْلُهُ هُوَ كِنَايَةٌ مِنَ اسْمِ اللَّهِ، وَالْأُمِّيُّونَ: هُمُ الْعَرَبُ. وَقَدْ بَيَّنَا فِيمَا مَضَى الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ لِلْأُمِّيِّ أُمِّيٌّ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: الْعَرَبُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يُحَدِّثُ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ}: الْعَرَبُ.
حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أُمَّةً أُمِّيَّةً، لَيْسَ فِيهَا كِتَابٌ يَقْرَءُونَهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا رَحْمَةً وَهُدًى يَهْدِيهِمْ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: كَانَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمِّيَّةً لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأُمِّيِّينَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ كِتَابًا؛ وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ (رَسُولًا مِنْهُمْ) يَعْنِي مِنَ الْأُمِّيِّينَ وَإِنَّمَا قَالَ مِنْهُمْ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أُمِّيًّا، وَظَهَرَ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَوْلُهُ: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ) يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَقْرَأُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأُمِّيِّينَ آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَيْهِ (وَيُزَكِّيهِمْ) يَقُولُ: وَيُطَهِّرُهُمْ مِنْ دَنَسِ الْكُفْرِ. وَقَوْلُهُ: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) يَقُولُ: وَيُعَلِّمُهُمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَشَرَائِعَ دِينِهِ (وَالْحِكْمَةَ) يَعْنِي بِالْحِكْمَةِ: السُّنَنَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) أَيِ السُّنَّةُ. حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، قَالَ: {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} أَيْضًا كَمَا عَلَّمَ هَؤُلَاءِ يُزَكِّيهِمْ بِالْكِتَابِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ كَمَا صَنَعَ بِالْأَوَّلِينَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} مِمَّنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، قَالَ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِيهِمْ سَابِقِينَ، وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} وَقَالَ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فَثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ سَابِقُونَ، وَقَلِيلٌ السَّابِقُونَ مِنَ الْآخَرِينَ، وَقَرَأَ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} حَتَّى بَلَغَ {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أَيْضًا، قَالَ: وَالسَّابِقُونَ مِنَ الْأَوَّلِينَ أَكْثَرُ، وَهُمْ مِنَ الْآخَرِينَ قَلِيلٌ، وَقَرَأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الْآيَةُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقَدْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأُمِّيُّونَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ فِي جَوْرٍ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ، وَأَخْذٍ عَلَى غَيْرِ هُدًى مُبِينٍ، يَقُولُ: يُبَيِّنُ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ أَنَّهُ ضَلَالٌ وَجَوْرٌ عَنِ الْحَقِّ وَطَرِيقِ الرُّشْدِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَهُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ، وَفِي آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يُلْحِقُوا بِهِمْ، فَآخَرُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَطْفًا عَلَى الْأُمِّيِّينَ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ)، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِذَلِكَ الْعَجَمُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ الْيَرْبُوعِيُّ، قَالَ: ثَنَا فُضَيْلُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: هُمُ الْأَعَاجِمُ. حَدَّثَنَا أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: الْأَعَاجِمُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا عَاصِمٌ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: الْأَعَاجِمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ لَا أَعْلَمُهُ إِلَّ عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: الْعَجَمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: ثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَمَّا إِنَّ سُورَةَ الْجُمُعَةِ أُنْزِلَتْ فِينَا وَفِيكُمْ فِي قَتْلِكُمُ الْكَذَّابَ، ثُمَّ قَرَأَ {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}... حَتَّى بَلَغَ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: فَأَنْتُمْ هُمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: الْأَعَاجِمُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، جَمِيعًا عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: "كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ فَقَالَ: "لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاء». حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: ثَنَا عَمِّي، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ الْمَدَنِيُّ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَالِمٍ أَبي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: وَكُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا عُنِيَ بِذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: مِنْ رَدِفِ الْإِسْلَامِ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قَالَ: هَؤُلَاءِ كُلُّ مَنْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كُلُّ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ. وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عِنْدِي قَوْلُ مَنْ قَالَ: عُنِيَ بِذَلِكَ كُلُّ لَاحِقٍ لَحِقَ بِالَّذِينِ كَانُوا صَحِبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِسْلَامِهِمْ مِنْ أَيِّ الْأَجْنَاسِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَمَّ بِقَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} كُلَّ لَاحِقٍ بِهِمْ مِنْ آخَرِينَ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، فَكُلُّ لَاحِقٍ بِهِمْ فَهُوَ مِنَ الْآخِرِينَ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا فِي عِدَادِ الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ: {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يَقُولُ: لَمْ يَجِيئُوا بَعْدُ وَسَيَجِيئُونَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) يَقُولُ: لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يَقُولُ: وَاللَّهُ الْعَزِيزُ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ مِنْهُمْ، الْحَكِيمُ فِي تَدْبِيرِهِ خَلَقَهُ. وَقَوْلُهُ: (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي فَعَلَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مِنْ بِعْثَتِهِ فِي الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ، وَفِي آخَرِينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ، وَيَفْعَلُ سَائِرَ مَا وَصَفَ، فَضْلُ اللَّهِ، تَفَضَّلَ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، يَقُولُ: يُؤْتِي فَضْلَهُ ذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ، لَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ مِمَّنْ حَرَمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْهُ حَقًا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ وَلَا ظَلَمَهُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ أَهْلٌ، فَأَوْدَعَهُ إِيَّاهُ، وَجَعَلَهُ عِنْدَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سِنَانٍ الْقَزَّازُ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنْ شَبِيبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} قَالَ: الْفَضْلُ: الدِّينُ (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ، الْمُحْسِنِ مِنْهُمْ وَالْمُسِيءِ، وَالَّذِينَ بَعَثَ فِيهِمُ الرَّسُولَ مِنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ، الْعَظِيمُ الَّذِي يَقِلُّ فَضْلُ كُلِّ ذِي فَضْلٍ عِنْدِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: مَثَلُ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَحُمِّلُوا الْعَمَلَ بِهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} يَقُولُ: ثُمَّ لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا، وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِهِ فِيهَا وَاتِّبَاعِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} يَقُولُ: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ عَلَى ظَهْرِهِ كُتُبًا مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، لَا يَنْتَفِعُ بِهَا، وَلَا يَعْقِلُ مَا فِيهَا، فَكَذَلِكَ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ الَّتِي فِيهَا بَيَانُ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَثَلُهُمْ إِذَا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا فِيهَا، كَمَثَلِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ أَسْفَارًا فِيهَا عِلْمٌ، فَهُوَ لَا يَعْقِلُهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: (يَحْمِلُ أَسْفَارًا) قَالَ: يَحْمِلُ كُتُبًا لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، وَلَا يَعْقِلُهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قَالَ: يَحْمِلُ كِتَابًا لَا يَدْرِي مَاذَا عَلَيْهِ، وَلَا مَاذَا فِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قَالَ: كَمَثَلِ الْحِمَارِ الَّذِي يَحْمِلُ كُتُبًا، لَا يَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِهِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} كُتُبًا، وَالْكِتَابُ بِالنَّبَطِيَّةِ يُسَمَّى سِفْرًا؛ ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا مَثَلًا لِلَّذِينِ أُعْطُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ كَفَرُوا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} وَالْأَسْفَارُ: الْكُتُبُ، فَجَعَلَ اللَّهُ مَثَلَ الَّذِي يَقْرَأُ الْكِتَابَ وَلَا يَتَّبِعُ مَا فِيهِ، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ كِتَابَ اللَّهِ الثَّقِيلَ، لَا يَدْرِي مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ}... الْآيَةُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} قَالَ: الْأَسْفَارُ: التَّوْرَاةُ الَّتِي يَحْمِلُهَا الْحِمَارُ عَلَى ظَهْرِهِ، كَمَا تُحْمَلُ الْمَصَاحِفُ عَلَى الدَّوَابِّ، كَمَثَلِ الرَّجُلِ يُسَافِرُ فَيَحْمِلُ مُصْحَفَهُ، قَالَ: فَلَا يَنْتَفِعُ الْحِمَارُ بِهَا حِينَ يَحْمِلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ، كَذَلِكَ لَمْ يَنْتَفِعْ هَؤُلَاءِ بِهَا حِينَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهَا وَقَدْ أُوتُوهَا، كَمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا هَذَا وَهِيَ عَلَى ظَهْرِهِ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} يَقُولُ: كُتُبًا. وَالْأَسْفَارُ: جَمْعُ سِفْرٍ، وَهِيَ الْكُتُبُ الْعِظَامُ. وَقَوْلُهُ: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} يَقُولُ: بِئْسَ هَذَا الْمَثَلُ، مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، يَعْنِي بِأَدِلَّتِهِ وَحُجَجِهِ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ لَا يُوَفِّقُ الْقَوْمَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَكَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْيَهُودِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} سِوَاكُمْ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فِي قَيْلِكُمْ، إِنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ أَوْلِيَاءَهُ، بَلْ يُكْرِمُهُمْ وَيُنَعِّمُهُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ مُحِقِّينَ فِيمَا تَقُولُونَ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لِتَسْتَرِيحُوا مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَغُمُومِهَا، وَتَصِيرُوا إِلَى رَوْحِ الْجِنَانِ وَنَعِيمِهَا بِالْمَوْتِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا} قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ تَابُوا: لِلْيَهُودِ، قَالَ مُوسَى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} إِنَّا تُبْنَا إِلَيْكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} يَقُولُ: وَلَا يَتَمَنَّى الْيَهُودُ الْمَوْتَ أَبَدًا {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيَهُمْ} يَعْنِي: بِمَا اكْتَسَبُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنَ الْآثَامِ، وَاجْتَرَحُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو عِلْمٍ بِمَنْ ظَلَمَ مِنْ خَلْقِهِ نَفْسَهُ، فَأَوْبَقَهَا بِكُفْرِهِ بِاللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ لِلْيَهُودِ {إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} فَتَكْرَهُونَهُ، وَتَأْبَوْنَ أَنْ تَتَمَنَّوْهُ {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} وَنَازِلٌ بِكُمْ {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} ثُمَّ يَرُدُّكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، عَالِمِ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ وَالشَّهَادَةُ: يَعْنِي وَمَا شُهِدَ فَظَهَرَ لِرَأْيِ الْعَيْنِ، وَلَمْ يَغِبْ عَنْ أَبْصَارِ النَّاظِرِينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: تَلَا قَتَادَةُ: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَذَلَّ ابْنَ آدَمَ بِالْمَوْتِ، لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا رَفَعَهُ {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: فَيُخْبِرُكُمْ حِينَئِذٍ مَا كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، سَيِّئِهَا وَحَسَنِهَا، لِأَنَّهُ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهَا، ثُمَّ يُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ عِبَادِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَذَلِكَ هُوَ النِّدَاءُ، يُنَادَى بِالدُّعَاءِ إِلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِلْخُطْبَةِ؛ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} يَقُولُ: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَاعْمَلُوا لَهُ؛ وَأَصْلُ السَّعْيِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْعَمَلُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الشَّوَاهِدَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: فَاسْعَوْا فِي الْعَمَلِ، وَلَيْسَ السَّعْيُ فِي الْمَشْيِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} وَالسَّعْيُ يَا ابْنَ آدَمَ أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ، وَهُوَ الْمُضِيُّ إِلَيْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُغِيرَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنْ أُبَيًّا يَقْرَؤُهَا (فَاسْعَوْا) قَالَ: أَمَّا إِنَّهُ أَقْرَؤُنَا وَأَعْلَمُنَا بِالْمَنْسُوخِ وَإِنَّمَا هِيَ فَامْضُوا. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزَّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سَمِعْتُ عُمَرَ يَقْرَؤُهَا قَطُّ إِلَّا فَامْضُوا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْرَؤُهَا: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَنْظَلَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَهَا: فَامْضُوا. حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: ثَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقْرَأُ (إِذَا نُودِيَ لِلْصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ تَوَفَّى اللَّهُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَا يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا الْجُمُعَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} إِلَّا فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، قَالَ: ثَنَا مُعَاوِيَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا "فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" وَيَقُولُ: لَوْ قَرَأَتْهَا فَاسْعَوْا، لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَوْ كَانَ السَّعْيُ لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، قَالَ: وَلَكِنَّهَا (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: هَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ الْأَزْدِيُّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهَا (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، أَنَّهُ قَرَأَهَا (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: هِيَ لِلْأَحْرَارِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: عِنْدَ الْوَقْتِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ} قَالَ: عِنْدَ الْوَقْتِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: هُوَ عِنْدَ الْعَزْمَةِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ، عِنْدَ الذِّكْرِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ: النِّدَاءُ عِنْدَ الذِّكْرِ عَزِيمَةٌ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ: الْعَزْمَةُ عِنْدَ الذِّكْرِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ. قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْمُغِيرَةِ وَالْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَوْ قَرَأْتُهَا (فَاسْعَوْا) لَسَعَيْتُ حَتَّى يَسْقُطَ رِدَائِي، وَكَانَ يَقْرَؤُهَا(فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَرَأَهَا (فَامْضُوا) حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: السَّعْيُ: الْعَمَلُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: إِذَا سَمِعْتُمُ الدَّاعِي الْأَوَّلَ، فَأَجِيبُوا إِلَى ذَلِكَ وَأَسْرِعُوا وَلَا تُبْطِئُوا؛ قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذَانٌ إِلَّا أَذَانَانِ: أَذَانٌ حِينَ يَجْلِسُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَأَذَانٌ حِينَ يُقَامُ الصَّلَاةُ؛ قَالَ: وَهَذَا الْآخَرُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدُ؛ قَالَ: لَا يَحِلُّ لَهُ الْبَيْعُ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ إِذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَرَأَ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} قَالَ: وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ يَذَرُونَ شَيْئًا غَيْرَهُ، حَرَّمَ الْبَيْعَ ثُمَّ أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، قَالَ: وَالسَّعْيُ أَنْ يُسْرِعَ إِلَيْهَا، أَنْ يُقْبِلَ إِلَيْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ فِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ (إِذَا نُودِيَ لِلْصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} السَّعْيُ: هُوَ الْعَمَلُ، قَالَ اللَّهُ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}. وَقَوْلُهُ: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} يَقُولُ: وَدَعُوا الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ. وَكَانَ الضَّحَّاكُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، قَالَ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. حَدَّثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ قَوْمٌ يَجْلِسُونَ فِي بَقِيعِ الزُّبَيْرِ، فَيَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَا يَقُومُونَ، فَنَزَلَتْ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} وَأَمَّا الذِّكْرُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالسَّعْيِ إِلَيْهِ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ فِيمَا قِيلَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ: الْعَزْمَةُ عِنْدَ الذِّكْرِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ. حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَ: ثَنَا عَبْدَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فَهِيَ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ بَعْدُ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ: سَعْيُكُمْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَتَرْكُ الْبَيْعِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَصَالِحَ أَنْفُسِكُمْ وَمَضَارِّهَا. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (الْجُمُعَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْجِيمِ، خَلَا الْأَعْمَشُ فَإِنَّهُ قَرَأَهَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَإِذَا قُضِيَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَانْتَشَرُوا فِي الْأَرْضِ إِنْ شِئْتُمْ، ذَلِكَ رُخْصَةٌ مِنَ اللَّهِ لَكُمْ فِي ذَلِكَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ}. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} قَالَ: هَذَا إِذْنٌ مِنَ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ خَرَجَ، وَمَنْ شَاءَ جَلَسَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَذِنَ اللَّهُ لَهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الصَّلَاةِ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فَقَدْ أَحْلَلْتُهُ لَكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُعَافَى بْنِ يَعْقُوبَ الْمُوصِلِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ الصَّائِغُ مِنَ الْمَوْصِلِ، عَنْ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} قَالَ: " لَيْسَ لِطَلَبِ دُنْيَا، وَلَكِنْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ، وَحُضُورُ جَنَازَةٍ، وَزِيَارَةُ أَخٍ فِي اللَّه». وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ: وَالْتَمِسُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الَّذِي بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ لِدُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ. وَقَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} يَقُولُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ بِالْحَمْدِ لَهُ، وَالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، لِتُفْلِحُوا، فَتُدْرِكُوا طَلَبَاتِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ، وَتَصِلُوا إِلَى الْخُلْدِ فِي جِنَانِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ عِيرَ تِجَارَةٍ أَوْ لَهْوًا (انْفَضُّوا إِلَيْهَا) يَعْنِي أَسْرَعُوا إِلَى التِّجَارَةِ {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَتَرَكُوكَ يَا مُحَمَّدُ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ التِّجَارَةَ الَّتِي رَأَوْهَا فَانْفَضَّ الْقَوْمُ إِلَيْهَا، وَتَرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا كَانَتْ زَيْتًا قَدِمَ بِهِ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنَ الشَّامِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السَّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، قَالَ: «قَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ بِتِجَارَةِ زَيْتٍ مِنَ الشَّامِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَيْهِ بِالْبَقِيعِ خَشُوا أَنْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ، قَالَ: فَنَزَلَتْ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}». حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ قُرَّةَ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قَالَ: «جَاءَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِتِجَارَةٍ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَتَرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجُوا إِلَيْهِ، فَنَزَلَتْ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ». حَدَّثَنِي أَبُو حَصِينٌ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ يُونُسَ، قَالَ: ثَنَا عَبْثَرٌ، قَالَ: ثَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمُعَةِ، فَمَرَّتْ عِيرٌ تَحْمِلُ الطَّعَامَ، قَالَ: فَخَرَجَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَنَزَلَتْ آيَةُ الْجُمُعَة». حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ، قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَصَابَهُمْ جُوعٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ، فَقَدِمَتْ عِيرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَسَمِعُوا بِهَا، فَخَرَجُوا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} قَالَ: جَاءَتْ تِجَارَةٌ فَانْصَرَفُوا إِلَيْهَا، وَتَرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا وَإِذَا رَأَوْا لَهْوًا وَلَعِبًا {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} قَالَ: رِجَالٌ كَانُوا يَقُومُونَ إِلَى نَوَاضِحِهِمْ وَإِلَى السَّفْرِ يَبْتَغُونَ التِّجَارَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ: "بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ وَيَقُومُونَ حَتَّى بَقِيَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَقَالَ: كَمْ أَنْتُمْ؟ فَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ فَإِذَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ؛ ثُمَّ قَامَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَجَعَلَ يَخْطُبُهُمْ؛ قَالَ سُفْيَانُ: وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّ فِي حَدِيثِهِ وَيَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ، فَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ وَيَقُومُونَ حَتَّى بَقِيَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَقَالَ: كَمْ أَنْتُمْ، فَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ؛ ثُمَّ قَامَ فِي الْجُمُعَةِ الثَّالِثَةِ فَجَعَلُوا يَتَسَلَّلُونَ وَيَقُومُونَ حَتَّى بَقِيَتْ مِنْهُمْ عِصَابَةٌ، فَقَالَ كَمْ أَنْتُمْ؟ فَعَدُّوا أَنْفُسَهُمْ، فَإِذَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوِ اتَّبَعَ آخِرُكُمْ أَوَّلَكُمْ لَالْتَهَبَ عَلَيْكُمُ الْوَادِي نَارًا"، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}»). حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} قَالَ: «لَوِ اتَّبَعَ آخِرُهُمْ أَوَّلَهُمْ لَالْتَهَبَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَارًا». قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، قَالَ مَعْمَرٌ، قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ مَعَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الرَّازِيُّ، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ، عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي سُفْيَانَ، «عَنْ جَابِرٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} قَالَ: قَدِمَتْ عِيرٌ فَانْفَضُّوا إِلَيْهَا، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا». حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْآمُلِيُّ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمٍ، «عَنْ جَابِرٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَخْطُبُ قَائِمًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَجَاءَتْ عِيرٌ مِنَ الشَّامِ، فَانْفَتَلَ النَّاسُ إِلَيْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْجُمُعَةِ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}» وَأَمَّا اللَّهْوُ، فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ مِنْ أَيِّ أَجْنَاسِ اللَّهْوِ كَانَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ كَبَرًا وَمَزَامِيرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ كَانَ الْجَوَارِي إِذَا نَكَحُوا كَانُوا يَمُرُّونَ بِالْكَبَرِ وَالْمَزَامِيرِ وَيَتْرُكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا عَلَى الْمِنْبَرِ، وَيَنْفُضُونَ إِلَيْهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا}. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ طَبْلًا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اللَّهْوُ: الطَّبْلُ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْأَشْيَبُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، قَالَ: ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ اللَّهْوَ: هُوَ الطَّبْلُ. وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ جَابِرٍ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ أَمْرَ الْقَوْمِ وَمَشَاهِدَهُمْ. وَقَوْلُ: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ، لِمَنْ جَلَسَ مُسْتَمِعًا خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْعِظَتَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى أَنْ يَفْرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ الَّتِي يَنْفَضُّونَ إِلَيْهَا {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ خَيْرُ رَازِقٍ، فَإِلَيْهِ فَارْغُبُوا فِي طَلَبِ أَرْزَاقِكُمْ، وَإِيَّاهُ فَاسْأَلُوا أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ دُونَ غَيْرِهِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يَا مُحَمَّدُ (قَالُوا) بِأَلْسِنَتِهِمْ {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} قَالَ الْمُنَافِقُونَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُولُوا: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِي إِخْبَارِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهَا تَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَعْتَقِدُ ذَلِكَ وَلَا تُؤْمِنُ بِهِ، فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي خَبَرِهِمْ عَنْهَا بِذَلِكَ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} إِنَّمَا كَذَّبَ ضَمِيَرَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا النِّفَاقَ، فَكَمَا لَمْ يَقْبَلْ إِيمَانَهُمْ، وَقَدْ أَظْهَرُوهُ، فَكَذَلِكَ جَعَلَهُمْ كَاذِبِينَ، لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا غَيْرَ مَا أَظْهَرُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: اتَّخَذَ الْمُنَافِقُونَ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، وَهِيَ حَلِفُهُمْ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}: أَيْ حَلِفُهُمْ جُنَّةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} قَالَ: يَجْتَنُّونَ بِهَا، قَالَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يَقُولُ: حَلِفُهُمْ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ جُنَّةٌ. وَقَوْلُهُ: (جُنَّةً): سُتْرَةٌ يَسْتَتِرُونَ بِهَا كَمَا يَسْتَتِرُ الْمُسْتَجِنُّ بِجُنَّتِهِ فِي حَرْبٍ وَقِتَالٍ، فَيَمْنَعُونَ بِهَا أَنْفُسَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيَدْفَعُونَ بِهَا عَنْهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (جُنَّةً) لِيَعْصِمُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ. وَقَوْلُهُ. {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يَقُولُ: فَأَعْرَضُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرِيعَتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِخَلْقِهِ {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِي اتِّخَاذِهِمْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، لِكَذِبِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِشَكِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ. وَقَوْلُهُ: (فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) يَقُولُ: فَجَعَلَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ خَتْمًا بِالْكُفْرِ عَنِ الْإِيمَانِ؛ وَقَدْ بَيَّنَا فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا صِفَةَ الطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ بِشَوَاهِدِهَا، وَأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَوْلُهُ: (فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ صَوَابًا مِنْ خَطَأٍ، وَحَقًّا مِنْ بَاطِلٍ لِطَبْعِ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَكَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أَقَرُّوا بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ تَأْبَى ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}. يَقُولُ جُلَّ ذِكْرِهِ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذَا رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ يَا مُحَمَّدُ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ لِاسْتِوَاءِ خَلْقِهَا وَحُسْنِ صُوَرِهَا {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَإِنْ يَتَكَلَّمُوا تَسْمَعْ كَلَامَهُمْ يُشْبِهُ مَنْطِقُهُمْ مَنْطِقَ النَّاسِ {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} يَقُولُ كَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ لَا خَيْرَ عِنْدَهُمْ وَلَا فِقْهَ لَهُمْ وَلَا عِلْمَ، وَإِنَّمَا هُمْ صُوَرٌ بِلَا أَحْلَامٍ، وَأَشْبَاحٌ بِلَا عُقُولٍ. وَقَوْلُهُ: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَحْسَبُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ مِنْ خُبْثِهِمْ وَسُوءِ ظَنِّهِمْ، وَقِلَّةِ يَقِينِهِمْ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ عَلَى وَجِلٍ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَمْرًا يَهْتِكُ بِهِ أَسْتَارَهُمْ وَيَفْضَحُهُمْ، وَيُبِيحُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَتْلَهُمْ وَسَبْيَ ذَرَارِيَّهُمْ، وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ، فَهُمْ مِنْ خَوْفِهِمْ مِنْ ذَلِكَ كُلَّمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ اللَّهِ وَحْيٌ عَلَى رَسُولِهِ، ظَنُّوا أَنَّهُ نَزَلَ بِهَلَاكِهِمْ وَعَطَبِهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُمُ الْعَدُوُّ يَا مُحَمَّدُ فَاحْذَرْهُمْ، فَإِنَّ أَلْسِنَتَهُمْ إِذَا لَقُوكُمْ مَعَكُمْ وَقُلُوبَهُمْ عَلَيْكُمْ مَعَ أَعْدَائِكُمْ، فَهُمْ عَيْنٌ لِأَعْدَائِكُمْ عَلَيْكُمْ. وَقَوْلُهُ: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يَقُولُ: أَخْزَاهُمُ اللَّهُ إِلَى أَيِّ وَجْهٍ يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَسُمْعَتُهُ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}... الْآيَةُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ خَلًا الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ (خُشُبٌ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَالشِّينِ، كَأَنَّهُمْ وَجَّهُوا ذَلِكَ إِلَى جَمْعِ الْجَمْعِ، جَمَعُوا الْخَشَبَةَ خِشَابًا ثُمَّ جَمَعُوا الْخِشَابَ خُشُبًا، كَمَا جُمِعَتِ الثَّمَرَةُ ثِمَارًا، ثُمَّ ثُمُرًا. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخُشُبُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالشِّينِ إِلَى أَنَّهَا جَمْعُ خَشَبَةٍ، فَتُضَمُّ الشِّينَ مِنْهَا مَرَّةً، وَتُسَكَّنُ أُخْرَى، كَمَا جَمَعُوا الْأَكَمَةَ أُكُمًا وَأَكْمًا بِضَمِّ الْأَلِفِ وَالْكَافِ مَرَّةً، وَتَسْكِينِ الْكَافِ لَهَا مَرَّةً، وَكَمَا قِيلَ: الْبُدُنُ وَالْبُدْنُ، بِضَمِّ الدَّالِّ وَتَسْكِينِهَا لِجَمْعِ الْبَدَنَةِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ (خُشْبٌ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، وَلُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ وَتَسْكِينُ الْأَوْسَطِ فِيمَا جَاءَ مِنْ جَمْعِ فُعُلَةَ عَلَى فُعْلٍ فِي الْأَسْمَاءِ عَلَى أَلْسُنِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ وَذَلِكَ كَجَمْعِهِمُ الْبَدَنَةَ بُدْنًا، وَالْأَجَمَةَ أُجْمًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ تَعَالَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ لَوَوْا رُءُوسَهُمْ، يَقُولُ حَرَّكُوهَا وَهَزُّوهَا اسْتِهْزَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاسْتِغْفَارِهِ وَبِتَشْدِيدِ الْوَاوِ مِنْ (لَوَّوْا) قَرَأَتِ الْقُرَّاءُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَرَّرُوا هَزَّ رُءُوسِهِمْ وَتَحْرِيكِهَا، وَأَكْثَرُوا، إِلَّا نَافِعًا فَإِنَّهُ قَرَأَ ذَلِكَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ (لَوَوْا) عَلَى وَجْهِ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةَ مَنْ شَدَّدَ الْوَاوَ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَرَأَيْتَهُمْ يُعْرِضُونَ عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ بِوُجُوهِهِمْ {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} يَقُولُ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عَنِ الْمَصِيرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ، وَإِنَّمَا عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا فِيمَا ذُكِرَ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فَسَمِعَ بِذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، فَأَخْبَرَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ، فَحَلَفَ أَنَّهُ مَا قَالَهُ، وَقِيلَ لَهُ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ وَيُحَرِّكُهُ اسْتِهْزَاءً، وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ فَاعِلٍ مَا أَشَارُوا بِهِ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَتْ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: "خَرَجْتُ مَعَ عَمِّي فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ؛ قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ عَمِّي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، قَالَ: فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مَثَلُهُ قَطُّ؛ فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَقَتَكَ، قَالَ: حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} قَالَ: فَبَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهَا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَالْقَاسِمُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَعْرُوفٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ الْحَكَمُ: أَخْبَرَنِي، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ مَا قَالَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا، وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} قَالَ: سَمِعْتُهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ، فَلَاقَى نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: وَجَاءَ هُوَ فَحَلَفَ مَا قَالَ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَنِمْتُ قَالَ: فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَلَغَنِي، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ صَدَّقَكَ وَعَذَرَكَ" قَالَ: فَنَزَلَتِ الْآيَةُ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}... الْآيَةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا هَاشِمٌ أَبُو النَّضِرِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ، قَالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: فَلَامَنِي قَوْمِي وَقَالُوا: مَا أَرَدْتَ إِلَى هَذَا، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَنِمْتُ كَئِيبًا أَوْ حَزِينًا، قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكَ وَصَدَّقَكَ"، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}... حَتَّى بَلَغَ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}». حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، قَالَ: "سَمِعَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَرَفَعَهَا إِلَى وَلِيِّهِ، قَالَ: فَرَفَعَهَا وَلِيُّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقِيلَ لِزَيْدٍ: وَفَتْ أُذُنُكَ". حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانَ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي بَشِيرُ بْنُ مُسْلِمٍ "أَنَّهُ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ: يَا أَبَا حُبَابٍ إِنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ فِيكَ آيٌ شِدَادٌ، فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَى رَأْسَهُ وَقَالَ: أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُومِنَ فَآمَنْتُ، وَأَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِي فَأَعْطَيْتُ، فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ أَسْجُدَ لِمُحَمَّدٍ ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا}... الْآيَةُ كُلُّهَا قَرَأَهَا إِلَى (الْفَاسِقِينَ) أُنْزِلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ غُلَامًا مِنْ قَرَابَتِهِ انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِحَدِيثٍ عَنْهُ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا هُوَ يَحْلِفُ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَقْبَلَتِ الْأَنْصَارُ عَلَى ذَلِكَ الْغُلَامِ، فَلَامُوهُ وَعَذَلُوهُ، وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ: أَيْ لَسْتُ فَاعِلًا وَكَذَبَ عَلَيَّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا تَسْمَعُونَ"». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، قِيلَ لَهُ: تَعَالَ لِيَسْتَغْفِرَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوَى رَأْسَهُ وَقَالَ: مَاذَا قُلْتُ؟. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ لَهُ قَوْمُهُ: لَوْ أَتَيْتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَغْفَرَ لَكَ، فَجَعَلَ يَلْوِي رَأْسَهُ، فَنَزَلَتْ فِيهِ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَوَاءٌ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ {أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} ذُنُوبَهُمْ {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} يَقُولُ: لَنْ يَصْفَحَ اللَّهُ لَهُمْ عَنْ ذُنُوبِهِمْ، بَلْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُوَفِّقُ لِلْإِيمَانِ الْقَوْمَ الْكَاذِبِينَ عَلَيْهِ، الْكَافِرِينَ بِهِ، الْخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ. وَقَدْ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التَّوْبَةُ: 8] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةً عَلَى سَبْعِينَ مَرَّةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لِأَصْحَابِهِمْ {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ {حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَقُولُ: حَتَّى يَتَفَرَّقُوا عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: وَلِلَّهِ جَمِيعُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ وَبِيَدِهِ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ ذَلِكَ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَنْفَضُّوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} قَالَ: لَا تُطْعِمُوا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ حَتَّى تُصِيبَهُمْ مَجَاعَةٌ، فَيَتْرُكُوا نَبِيَّهُمْ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} قَرَأَهَا إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِهِ الْمُنَافِقِينَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ حَتَّى يَدَعُوهُ، فَإِنَّكُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ لَتَرَكُوهُ وَأُجْلُوا عَنْهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ، لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، فَأَنَّكُمْ لَوْ لَمْ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ قَدِ انْفَضُّوا. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَعْنِي الرَّفَدَ وَالْمَعُونَةَ، وَلَيْسَ يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ؛ وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا هُمُ الْمُنَافِقُونَ. حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، «عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: "لَمَّا قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ مَا قَالَ، أَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ فَحَلَفَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ لِي: تَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَذِبِ؟ حَتَّى جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ مَخَافَةَ إِذَا رَأَوْنِي قَالُوا: هَذَا الَّذِي يَكْذِبُ، حَتَّى أُنْزِلَ {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ}».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ قَبْلُ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فِيهَا، وَيَعْنِي بِالْأَعَزِّ: الْأَشَدَّ وَالْأَقْوَى، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ} يَعْنِي: الشِّدَّةَ وَالْقُوَّةَ {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} بِاللَّهِ {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ذَلِكَ. وَذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ قِيلِ ذَلِكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ كَانَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا زَمْعَةُ، عَنْ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: «إِنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا فَخَرَجُوا فِي غَزْوَةٍ لَهُمْ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمَا قِتَالٌ إِلَى أَنْ صَرَخَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، وَصَرَخَ الْمُهَاجِرُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ؛ قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ " فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهَا فِإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي فَأَقْتُلَهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"». حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ}... إِلَى {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} قَالَ: قَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ الْأَنْصَارِيُّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَنَاسٌ مَعَهُ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ قَالَ: ثَنِي أَبِي «عَنْ عِكْرِمَةَ أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ كَانَ يُقَالُ لَهُ حُبَابٌ، فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَالِدِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَذَرْنِي حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَقْتُلْ أَبَاكَ عَبْدَ اللَّهِ"، ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ وَالِدِي يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَذَرْنِي حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْتُلْ أَبَاكَ"، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَوَضَّأْ حَتَّى أَسْقِيَهُ مِنْ وَضُوءِكَ لَعَلَّ قَلْبَهُ أَنْ يَلِينَ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ، فَذَهَبَ بِهِ إِلَى أَبِيهِ فَسَقَاهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: هَلْ تَدْرِي مَا سَقَيْتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ وَالِدُهُ نَعَمْ، سَقَيْتِنِي بَوْلَ أُمِّكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَكِنْ سَقَيْتُكَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَظِيمَ الشَّأْنِ فِيهِمْ. وَفِيهِمْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قَالَ: فَلَمَّا بَلَغُوا الْمَدِينَةَ، مَدِينَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ، أَخَذَ ابْنُهُ السَّيْفَ، ثُمَّ قَالَ لِوَالِدِهِ: أَنْتَ تَزْعُمُ "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"، فَوَاللَّهِ لَا تَدْخُلُهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. » حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا الْحُسَيْنُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، «عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ بِرِجْلِهِ وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ شَدِيدٌ، فَنَادَى الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَنَادَى الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلْأَنْصَارِ؛ قَالَ: وَالْمُهَاجِرُونَ يَوْمئِذٍ أَكْثَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"». حَدَّثَنِي عُمْرَانُ بْنُ بِكَارٍ الْكَلَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ، أَخْبَرَهُ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} وَقَالَ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قَالَ: فَحَدَّثَنِي زَيْدٌ أَنَّهُ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، قَالَ: فَجَاءَ فَحَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ ذَلِكَ؛ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقَالَ لِي زَيْدٌ، فَجَلَسْتُ فِي بَيْتِي، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ زَيْدٍ، وَتَكْذِيبَ عَبْدِ اللَّهِ فِي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}». حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، «عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قَرَأَ الْآيَةَ كُلَّهَا إِلَى (لَا يَعْلَمُونَ) قَالَ: قَدْ قَالَهَا مُنَافِقٌ عَظِيمُ النِّفَاقِ فِي رَجُلَيْنِ اقْتَتَلَا أَحَدُهُمَا غِفَارِيٌّ، وَالْآخَرُ جُهَنِيٌّ، فَظَهَرَ الْغِفَارِيُّ عَلَى الْجُهَنِيِّ، وَكَانَ بَيْنَ جُهَيْنَةَ وَالْأَنْصَارِ حِلْفٌ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ ابْنُ أُبَيٍّ: يَا بَنِي الْأَوْسِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ، عَلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ وَحَلِيفَكُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: "سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ"، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَسَعَى بِهَا بَعْضُهُمْ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"». ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ أُكْثِرُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَهُ، فَقَالَ: هَلْ يُصَلِّي؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَلَا خَيْرَ فِي صِلَاتِهِ، فَقَالَ: نُهِيتُ عَنِ الْمُصَلِّينَ، نُهِيتُ عَنِ الْمُصَلِّينَ. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، «عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: اقْتَتَلَ رَجُلَانِ، أَحَدُهُمَا مِنْ جُهَيْنَةَ، وَالْآخَرُ مِنْ غِفَارٍ، وَكَانَتْ جُهَيْنَةُ حَلِيفَ الْأَنْصَارِ، فَظَهَرَ عَلَيْهِ الْغِفَارِيُّ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَظِيمُ النِّفَاقِ: عَلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ، عَلَيْكُمْ صَاحِبَكُمْ، فَوَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ مُحَمَّدٍ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: "سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ"، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، وَهُمْ فِي سَفَرٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِمَّنْ سَمِعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: مُرْ مُعَاذًا يَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ: "وَاللَّهِ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ"، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}» وَقَوْلُهُ: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}. حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، «عَنِ الْحَسَنِ "أَنَّ غُلَامًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؛ قَالَ: "فَلَعَلَّكَ غَضِبْتَ عَلَيْهِ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ؛ قَالَ: "فَلَعَلَّكَ أَخْطَأَ سَمْعُكَ؟ " قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُهُ قَالَ: فَلَعَلَّهُ شُبِّهَ عَلَيْكَ"، قَالَ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقًا لِلْغُلَامِ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} فَأَخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِ الْغُلَامِ، فَقَالَ: "وَفَتْ أُذُنُكَ، وَفَتْ أُذُنُكَ يَا غُلَامُ"». حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} قَالَ: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُسَمُّونَ الْمُهَاجِرِينَ: الْجَلَابِيبُ؛ وَقَالَ: قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: قَدْ أَمَرْتُكُمْ فِي هَؤُلَاءِ الْجَلَابِيبِ أَمْرِي، قَالَ هَذَا بَيْنَ أَمَجٍ وَعُسْفَانَ عَلَى الْكَدِيدِ تَنَازَعُوا عَلَى الْمَاءِ، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى الْمَاءِ؛ قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ أَيْضًا: أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ لَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ، لَوْ تَرَكْتُمُوهُمْ مَا وَجَدُوا مَا يَأْكُلُونَ، وَيَخْرُجُوا وَيَهْرُبُوا؛ فَأَتَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أُبَيٍّ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُ وَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إذًا تَرْعَدُ لَهُ آنُفٌ كَثِيرَةٌ بِيَثْرِبَ " قَالَ عُمَرُ: فَإِنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَمُرْ بِهِ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَيَقْتُلَانِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، ادْعُوَا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ "، فَدَعَاهُ، فَقَالَ: "أَلَا تَرَى مَا يَقُولُ أَبُوكَ؟ " قَالَ: وَمَا يَقُولُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: "يَقُولُ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"؛ فَقَالَ: فَقَدْ صَدَقَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ وَاللَّهِ الْأَعَزُّ وَهُوَ الْأَذَلُّ، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ قَدِمْتَ الْمَدِينَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ لَيَعْلَمُونَ مَا بِهَا أَحَدٌ أَبَرَّ مِنِّي، وَلَئِنْ كَانَ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَنْ آتِيَهُمَا بِرَأْسِهِ لِآتِيَنَّهُمَا بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا؛ فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ عَلَى بَابِهَا بِالسَّيْفِ لِأَبِيهِ؛ ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ الْقَائِلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَتَعْرِفَنَّ الْعِزَّةُ لَكَ أَوْ لِرَسُولِ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَا يَأْوِيكَ ظِلُّهُ، وَلَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَقَالَ: يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي، يَا لِلْخَزْرَجِ ابْنِي يَمْنَعُنِي بَيْتِي، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا تَأْوِيهِ أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُ؛ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ رِجَالٌ فَكَلَّمُوهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: "اذْهَبُوا إِلَيْهِ، فَقُولُوا لَهُ خَلِّهِ وَمَسْكَنَهُ"؛ فَأَتَوْهُ، فَقَالَ: أَمَّا إِذَا جَاءَ أَمْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَمْ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ وَعَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، قَالَ: كُلٌّ قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، قَالُوا: " بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ، وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَّةَ بِنْتِ الْحَارِثِ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ يُقَالُ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ مِنْ نَاحِيَةِ قَدِيدٍ إِلَى السَّاحِلِ، فَتَزَاحَفَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، » وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَنَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَفَاءَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ، يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صَبَابَةَ أَصَابَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الْعَدُوِّ، فَقَتَلَهُ خَطَأً، فَبَيْنَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لَهُ فَرَسَهُ، فَازْدَحَمَ جَهْجَاهُ وَسِنَانٌ الْجُهَنِيُّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ. وَصَرَخَ جَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ، وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلُوهَا؟ قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا، وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: "سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ"، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ؛ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ؛ فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ بِهِ عَبَّادَ بْنَ بِشْرِ بْنِ وَقْشٍ فَلْيَقْتُلْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لَا وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ"، وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا قُلْتُ مَا قَالَ، وَلَا تَكَلَّمْتُ بِهِ؛ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ، وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرَّجُلُ، حَدَبًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَدَفْعًا عَنْهُ؛ فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَارَ، لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكِرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَوَ مَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ؟ " قَالَ: فَأَيُّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ "، قَالَ: وَمَا قَال؟ قَالَ: "زَعَمَ أَنَّهُ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ"؛ قَالَ أُسَيْدٌ: فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ؛ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفُقْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونِ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ، فَإِنَّهُ لِيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مُلْكًا، ثُمَّ مَشَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ، ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ وَقَعُوا نِيَامًا، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ. ثُمَّ رَاحَ بِالنَّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النَّقِيعِ، يُقَالُ لَهُ نَقْعَاءُ؛ فَلَمَّا رَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَبَّتْ عَلَى النَّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوَّفُوهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَخَافُوا فَإِنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ"؛ فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ، وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ قَدْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ، فَقَالَ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فِلْمًا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِ زَيْدٍ فَقَالَ: "هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ بِأُذُنِهِ"، وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الَّذِي كَانَ مِنْ أَبِيهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، «عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ "أَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَّغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فِيمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ، فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، فَأَدْخُلَ النَّارَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَلْ نَرْفُقْ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا"، وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمُ الَّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ، وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنِّفُونَهُ وَيَتَوَعَّدُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ مِنْ شَأْنِهِمْ: "كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ قَتَلْتُهُ يَوْمَ أَمَرْتَنِي بِقَتْلِهِ لَأَرْعَدَتْ لَهُ آنُفٌ، لَوْ أَمَرْتُهَا الْيَوْمَ بِقَتْلِهِ لَقَتَلَتْهُ"؛ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَأَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِي».
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ) يَقُولُ: لَا تُوجِبُ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ (وَلَا أَوْلَادُكُمْ) اللَّهْوَ (عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) وَهُوَ مِنْ أَلْهَيْتُهُ عَنْ كَذَا وَكَذَا، فَلَهَا هُوَ يَلْهُو لَهْوًا؛ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ وَمُرْضِعٍ *** فألْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائمَ مُحْوِلِ وَقِيلَ: عُنِيَ بِذِكْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} يَقُولُ: وَمَنْ يُلْهِهِ مَالُهُ وَأَوْلَادُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يَقُولُ: هُمُ الْمَغْبُونُونَ حُظُوظَهُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتِنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَأَنْفَقُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الَّتِي رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ: يَا رَبِّ هَلَّا أَخَّرَتْنِي فَتُمْهِلَ لِي فِي الْأَجَلِ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ. فَأَصَّدَّقُ يَقُولُ: فَأُزَكِّي مَالِي {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} يَقُولُ: وَأَعْمَلُ بِطَاعَتِكَ، وَأُؤَدِّي فَرَائِضَكَ. وَقِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} وَأَحُجُّ بَيْتَكَ الْحَرَامَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ وَسَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ سَعِيدٌ، ثَنَا سُفْيَانُ، وَقَالَ يُونُسُ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ وَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا سَأَلَ الْكَرَّةَ، فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبَّاسٍ لَا تَزَالُ تَأْتِينَا بِالشَّيْءِ لَا نَعْرِفُهُ؛ قَالَ: فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتِنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} قَالَ: أُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِي {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قَالَ: أَحُجُّ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ الضِّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ أَنْ يُزَكِّيَ، وَإِذَا أَطَاقَ الْحَجَّ أَنْ يَحُجَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ، فَيَسْأَلَ رَبَّهُ الْكَرَّةَ فَلَا يُعْطَاهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَمَا تَتَّقِي اللَّهَ، يَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الْكَرَّةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ قُرْآنًا، فَقَرَأَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فَقَالَ الرَّجُلُ: فَمَا الَّذِي يُوجِبُ عَلَيَّ الْحَجَّ، قَالَ: رَاحِلَةٌ تَحْمِلُهُ، وَنَفَقَةٌ تُبَلِّغُهُ. حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَسَدَيُّ وَفَضَالَةُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ عَبَّادٌ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَبُو حَازِمٍ مَوْلَى الضَّحَّاكِ. وَقَالَ فَضَالَةُ: ثَنَا بَزِيعٌ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ فِي قَوْلِهِ: {لَوْلَا أَخَّرْتِنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} قَالَ: فَأَتَصَدَّقُ بِزَكَاةِ مَالِي {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قَالَ: الْحَجُّ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: ثَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لَمْ يُزَكِّهِ، وَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهُ حَقَّ اللَّهِ يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُزَكِّي مَالَهُ، قَالَ اللَّهُ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}... إِلَى قَوْلِهِ: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُؤْمِنُ إِذَا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ يُزَكِّهِ وَلَمْ يَحُجَّ مِنْهُ، وَلَمْ يُعْطِ حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، فَيَسْأَلُ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ لِيَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِهِ وَيُزَكِّي، قَالَ اللَّهُ {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا مِهْرَانُ، عَنْ سُفْيَانَ {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} قَالَ: الزَّكَاةُ وَالْحَجُّ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْأَمْصَارِ غَيْرَ ابْنِ مُحَيْصِنٍ وَأَبِي عَمْرٍو: وَأَكُنْ، جَزْمًا عَطْفًا بِهَا عَلَى تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (فَأَصَّدَّقَ) لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ الْفَاءُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: (فَأَصَّدَّقَ) لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ الْفَاءُ كَانَ جَزْمًا، وَقَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَأَبُو عَمْرٍو (وَأَكُونَ) بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَنَصْبِ (وَأَكُونَ) عَطْفًا بِهِ عَلَى قَوْلِهِ: (فَأَصَّدَّقَ) فَنَصَبَ قَوْلُهُ: (وَأَكُونُ) إِذًا كَانَ قَوْلُهُ: (فَأَصَّدَّقَ) نَصْبًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} يَقُولُ: لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ فِي أَجْلِ أَحَدٍ فَيَمُدَّ لَهُ فِيهِ إِذَا حَضَرَ أَجْلُهُ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَرِمُهُ {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يَقُولُ: وَاللَّهُ ذُو خِبْرَةٍ وَعِلْمٍ بِأَعْمَالِ عَبِيدِهِ هُوَ بِجَمِيعِهَا مُحِيطٌ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ بِهَا، الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ. آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ.
|